تعديل

lundi 22 janvier 2018

تازة والمدن البلاطية..

تازة والمدن البلاطية..


قبل عقدين أو يزيد، دُعيت للمشاركة في يوم دراسي بمدرسة الموحدين بالرباط حول مناهج التدريس بالأقسام الابتدائية. ولما أنهيت مداخلتي المرتجلة ضمن المحور المتعلق بالمسالك التربوية في مناهج التحصيل، التفتت صوبي مديرة التربية البيداغوجية بوزارة التربية الوطنية، السيدة حنان الصافي، لتسألني بفضول ينمُّ عن نزعة جهوية صارخة: من أية مدينة أنت ؟ ولما أجبتها في قمة الاعتزاز بأصولي وانتمائي القروي : "من تازة وبالضبط من دوار بني لنت المجاور، أدارت وجهها على التو، ولم تتوجه لي بكلمة أثناء اليوم الدراسي بكامله.. إن لم تكن مبعثا للسخرية، فتازة تبقى سُبّة على لسان الحُضّر المنحدرين من مدن بلاطية أو عصرية، مع أن المدينة كانت قلعة نضالية استعصت على الاستعمار الذي اكتشف أن جوفها زاخر بالعطاء الزراعي البدائي، فلم يلبث أن حوّلها إلى رئة اقتصادية هامة تدر على سكان المنطقة ما يكفي لتجنب مآسي الهجرة..
 كان مزارعو المدينة والقبائل المجاورة من تول وغياتة وبرانس وغيرها.. يمدّون الجارة فاس بكميات هائلة من الزيوت والكرموس والبرقوق والموز، قبل أن يقتلعهم المستعمر من حقولهم ليرسلهم إلى مواقع الحدود مع ألمانيا النازية كي يحاربوا من أجل أن تحيى فرنسا كريمة مستقلة..
بُنيت الفيلات والملاعب والملاهي والمؤسسات الجامعية والمستشفيات بفاس، وظلت تازة كما هي بوجهها القروي وبأهاليها الفطريين..المرأة بأزيائها التقليدية المحتشمة والرجل بجلبابه قصير المنكب إلى حد الركبتين، ورزة عريضة تقيه من البرد والحر ويُلفّ فيها بعض ما لديه من وثائق ونقود..كبُر جيل ما بعد الاستقلال، فتعلم أول ما تعلم من هذه الفطرية كيف يلبس الكوستيم والجلابة الفاسية، وكيف يتفنن في تسريحة الشعر تقليدا لأهالي فاس وسكان الحواضر العصرية بشكل عام.
هكذا حال مدن ومناطق مغربية كُتب عليها أن تظل قروية إلى الأبد، وكُتب على أهاليها أن يُصنّفوا ضمن أبخس الفئات وأكثرها تهميشا..فئات بلا حاضرة وهي في قلب حواضرها، وبلا قيمة اجتماعية بعد أن ضاعت منها بفعل التمييز الإقليمي وانتكاسات التاريخ..
لم يمض أكثر من أسبوع على حكايتي "التازية" مع السيدة الصافي، حتى فوجئت بالدكتور عز الدين العراقي، آنذاك وزير أول، في قمة الاعتزاز، أثناء لقاء تلفزيوني حول "فاس.. تراث إنساني عالمي" بالانتساب إلى مدينة فاس يتفاخر بهذا الانتساب ويفاخر به أهل مراكش والرباط وتطوان..وقد ختم مداخلته بفرنسية بليغة : ''Etre fassi est une culture'' (أن يكون المرء فاسيا، فهذا ثقافة).. صدمتني المقولة في العمق، وتعمدتُ عدم عدم الاهتمام بها لفرط عننصريتها.
وما هي إلا أسابيع حتى وقفت على برنامج "رجل الساعة" التي كانت تُعدّه باحترافية عالية، الصحفية فاطمة الوكيلي. كان ضيف الحلقة هو رجل الدولة "الفاسي" عز الدين العراقي . وقد شارك فيه زوجي الصحفي أحمد الميداوي عن وكالة المغرب العربي للأنباء إلى جانب الصحفيين، عبد اللطيف جبرو عن جريدة "الاتحاد الاشتراكي" ومصطفى اليزناسني، مدير جريدتي "المغرب" و"الميثاق الوطني" آنذاك. ولأن الحلقة صادفت أحداث فاس الدموية خلال الإضراب العام الذي دعت إليه كل من الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب، فإن موضوع فاس أخذ حصة الأسد، وكان نصيب زوجي في هذه الحصة أن ذكّر الدكتور عز الدين العراقي بمقولته "Etre Fassi est une culture وسأله عما إذا كانت هذه المقولة هي ترجمة دبلوماسية لمقولة أقوى منها "إقليمية" إن لم أقل "عنصرية"، ويحلو لأهل فاس ترديدها في غير ما مناسبة :"من بعد فاس ما بقاو ناس".. وبينما الدكتور العراقي، وقد بدا عليه شيء من الحرج، يحاول إفراغ المقولة من كل حمولة عنصرية، ارتأى مخرج الخلقة أن يوجه كاميرا التلفزيون نحو الحضور، وكان اندهاشي قويا حينما رأيت، بصدفة فريدة، في الصف الأمامي "صديقتي" السيدة الصافي، صاحب النظرة الدونية للقروية (أنا) ابنة دوار بني لنت، وقد رسمت على محياها ابتسامة عريضة، وكأنها تنتشي بانتسابها إلى فاس قلب الثقافة المغربية. والسيدة الصافي هي من عينها الدكتور العراقي مديرة للتربية البيداغوجية حينما كان يشغل منصب وزير التربية الوطنية قبل أن يعين رئيسا للحكومة. 
لا أتوخى من هذه الحكاية المريرة مع السيدة الصافي أية مؤاخذة أو تحامل لا على المُنتشين بتمدّنهم المفرط، ولا على الغارقين في قرويتهم البالية، ما دمت مقتنعة بأن منزلة الآدميين كانت وستظل في المغرب كما في مصر، وكما في فرنسا وفي مختلف بقاع العالم، تُقاس بالنّسب وبالعشيرة والمدينة.. فتازة تبقى حاضرة قروية مهما حاول أهاليها الانصهار إلى حد الذوبان في المدن البلاطية أو العصرية..والانتماء إلى فاس أو مراكش أو باريس أو القاهرة هو، كما شرح الدكتور عز الدين العراقي باقتدار، انتماء لروح الحضارات والثقافات التي تعاقبت على هذه المدن فأفرزت كمّا هائلا من العطاء المتنوع والبذل المتجدد ينهل منه الناس من مختلف الأجناس.
غير أنه من المؤسف جدا أن يغيب عن بعض النخب المغربية، وعن بعض وسائل الإعلام المكرسة لهذا التمييز في الهوية والانتماء، أن الهوية الترابية قيمة اجتماعية وثقافية مضافة، وأن التازي أو التاوناتي أو الريفي قد يتأثران بأفكار علال الفاسي وعبد الكريم غلاب، دون أن يتخليا عن الفقيه المقري وعبد الله الصنهاجي..، وقد يعجبان بتراث فاس وحضارة فاس دون أن يتنكرا للتربة التي ترعرعا في أحضانها.. لقد أصبح البدوي الأُمي مواطنا وإنسانا متعلّما، رضع حليب الثقافة الفاسية والتطوانية والرباطية بالتأكيد، لكنه أدرك نسبيتها ضمن نسيج الثقافات الإنسانية، وعرف ما يأخذ منها وما يترك.



بقلم    ذ. فوزية يسف

الأراء المعبر عنها في التعليقات تمثل وجهة نظر صاحبها .ولا علاقة لها بالتوجهات العامة للموقع

2 commentaires:

مقال رائع تحية للاخت فوزية يسف

تحية للأستاذة فوزية يسف

Enregistrer un commentaire

Twitter Facebook Digg