تعديل

mercredi 4 juillet 2018

شذرات من حياتي 4



تحياتي أحبابي:
جمعنا حقائبنا وغادرنا السوق متوجهين صوب المجهول وكلي لهفة إلى الغد من أجل أن أثبت لذلك الأبله أن المظاهر خداعة وأن الرجال لا توزن بالميزان ولا تكال بالقفزان.
ركب الرجل بغلته وتبعناه وبعد ساعة ونصف أو ساعتين (لم أعد أذكر بالضبط) من المشي الخفيف وصلنا دوارا في سفح تلة اسمه "عين سخون" دخلنا غرفة الرجل وجلسنا نتحادث، وبعد برهة قصيرة قدم لنا وجبة الغذاء، أكلنا ما كتب الله لنا أكله ثم جلسنا ننتظر قرار الرجل حول من سيبقى معه ومن سيرسله عند أخيه، دخل علينا مرة أخرى وأشار إلى عمي قائلا:
الفلاح: شوف ألمقدم خذ معك هذ التلميذ وهذا وهذا وهذا (وأشار إلى ثلاثة رجال كهول آخرين وكأنه يتعمد أن يرسل لأخيه الرجال الذين يظن أنهم الأضعف) وسيرو مع هذ ولد خويا.
عمي بوجمعة: راه حتى هذ الشاب (وأشار إلى ابن عمي يوسف) ولد خاي ما يمكنش نسمح فيه.
الفلاح: واخا ديه معك وخلي هذ الراجل معنا.
جمعنا حقائبنا وتوجهنا إلى دار قريبة، أدخلنا ذلك الشاب إلى الغرفة وأتى لنا بإبريق شاي وبعض الفواكه الجافة وتركنا وخرج، بعد برهة جاء عندنا رجل حسن المنظر وطلب منا أن ننام قليلا لنرتاح، وأن نعطيه الملابس المتسخة لغسلها، شكرناه على حسن تعامله واستغرق الرجال في نوم عميق أما أنا ففتحت حقيبتي وأخرجت منها مقررات الامتحان الشفوي وشرعت في المراجعة، دخل علينا الرجل مرة أخرى فوجدني عل تلك الحال فتعجب وسألني بلطف.
الرجل: واش باقي كاتقرا أولدي؟
أنا: نعم أعمي الحاج.
الرجل: وفين كاتقرا؟
أنا: فالجامعة ففاس.
الرجل: أودي ما عندي ما يسالك، هذو هوما الرجال وإلا فلا، راهم الدراري لي كايقراو فالجامعة عندنا هنا ما كايرضاوش حتى يهزو الشوكة من الطريق، مناين نتوما فالخوت.
أنا: حنا من التسول ألحاج.
الرجل: مرحبا بكم، التسول معروفين بالرجلة، الله يرضي عليك أولدي.
خرج الرجل وقد أحدثت ردة فعله وطريقة تعامله اللطيفة معي رجة كبيرة في داخلي عكس أخيه تماما.
قبل الغروب قليلا استيقظ عمي بوجمعة والباقين فخرجنا وتوجهنا صوب عين سخون وهي عين غزيرة الماء يبدو من خلال نظافتها واتساع صهاريجها أنها من مخلفات الاستعمار، اقتربنا من المنبع بلطف وحذر نظرا لوجود كم هائل من النساء والبنات اللائي يغسلن الملابس والأغطية بالقرب من العين، شربنا وغسلنا وجوهنا ورجعنا وصعدنا بعض الأحجار الكبيرة وجلسنا نتحادث، قبل آذان المغرب توجهنا صوب المسجد وبعد أن أدينا الصلاة جلست مع الإمام لقراءة الحزب الراتب، استغرب الرجل هذا الأمر وجلس معنا حتى أتممنا القراءة ثم توجهنا للبيت، قدم لنا الشاي ثم وجبة العشاء، جلسنا ننتظر آذان صلاة العشاء، فلما أذنت قدمني عمي بوجمعة للصلاة جماعة، ثم استلقى كل واحد منا في مكانه وأطفئ السراج، سمعت شخير الرفقة ولكن النوم هرب من عيني تلك الليلة، فلم أكن متعودا على الرقاد في ذلك الوقت المتقدم من الليل، بقيت أتقلب في مكاني ثم أغمضت عيني لأفتحهما على صوت الرجل وهو يوقظنا لتناول وجبة الإفطار أو بالأحرى وجبة السحور فقد كانت الساعة تشير للثانية والنصف صباحا، استغربت هذا الأمر ولكن حين رأيت أصحابي يلملمون حاجياتهم ويغيرون ثيابهم عرفت بأن هذا هو العرف المتبع في هذا العمل، أتى لنا الرجل بإبريق من القهوة السوداء وبعض الزيت والزيتون مع خبز شعير ممزوج بدقيق القمح، حاولت أكل ما تيسر ولكن لم أستطع لأن شهيتي كانت مسدودة تماما، رآني الرجل فتبسم وخاطبني:
الرجل: كل أولدي كل شي بركة، راه الفدان بعيد والفطور ديال الصباح غادي يتعطل حتى للتسعود أو العشرة.
أجبته بأني لا أستطيع وبأني غير متوعد على الإفطار أصلا، تبسم وتركني، ثم طلب منا الذهاب مع أخيه الأكبر الذي سيرينا الحقل المراد حصاده، بعد أن انتهى الرجال من الأكل سمعنا آذان الصبح، فصليناه جماعة ثم خرجنا قاصدين الحقل، التقينا مع الخمسة من أصحابنا يرافقهم الفلاح الأول ومشينا لأكثر من ساعة، فلما وصلنا المكان المنشود وجدنا حقلا من الشعير الممتاز، بين لنا الأخ الأكبر حدوده وأمرنا بأن نشرع في الحصاد. اجتمعنا مع عمي بوجمعة الذي وضع كل واحد منا في مكانه قائلا:
عمي بوجمعة: شوفو أليشاشرا أنا ماشي نشد السلطنة وحدايا يوسف وأحمد فالوسط وحداه الغازي ومحمد فالحمارة.
أطعنا أمره ثم شرعنا في العمل.
ترك الأخ الأكبر حقله ووقف خلفي ينظر متعجبا إلى هذا الشاب النظيف الذي يلبس قميصا قصيرا بلا أكمام ولا يضع تبانتة عل صدره كالبقية، رأيته يرمقني بنظراته فانهمكت بعملي بشكل عادي دون ان أتحمس أو أبذل جهدا أكبر لأني كنت أعرف أن اليوم الأول يكون صعبا جدا خاصة على الرسغ والكف، فلو اجتهد الفلاح في العمل وبالأخص في الساعات الأولى فإنه سيكون معرضا للإصابة في هاتين المنطقتين بالضبط (يعبر الفلاحون عن حالة فك الرسغ ب "فلان طاحتلو الفريخة" وبالإصابة في الكف ب"فلان يدو تحل") بقي الرجل معنا يراقبني بصمت وصبر، وهو يلاحظ الفرق بيننا وبين الفلاحين الذين اختارهم حيث تجاوزناهم بكثير وحصدنا ضعف ما حصدوه تقريبا، حوالي الساعة العاشرة جاء لنا الابن البكر بوجبتي الفطور والغذاء مجتمعتين، تناولنا الأولى ووضع الثانية فوق نار خفيفة جدا صادرة عن قنينة غاز صغيرة تحت ظل شجرة زيتون لتحتفظ بحرارتها، ظل الأخ الأكبر معنا اليوم كله، فلما بلغت الساعة الخامسة رفعنا "معروف" ثم جلسنا نستريح قليلا، تقدم الرجل نحوي وأمسك رأسي وقبل جبهتي وقال لي:
الرجل: سمحلي أولدي حقرتك والرجال ما كايتحقروش، راه هذ الناس هوما لي خرجو فوجهك، ماشي نتا لي خرجتي فوجههم، هذو هوما الرجال وإيلا فلا، والله يرحم من رباك.
أحسست بإحساس غريب يسري في داخلي، ولم أستطع الرد عليه سوى بابتسامة تخفي من التشفي أكثر مما تخفيه من فخر، رجعنا إلى البيت فوجدنا الخبر قد سبقنا إلى الدوار بأكمله لأني رأيت بعض الشباب ينظرون إلي ويتهامسون فيما بينهم.
ما أن دخلت الغرفة حتى وجدت ثيابي مطوية ومرتبة بلمسة أنثوية واضحة، دخل علينا صاحب البيت وأظهر لنا ولي شخصيا من الترحيب والإكرام ما تعجبت له، بقينا عنده في أحسن حال مدة اثنا عشر يوما لا يكدرها سوى الاستيقاظ الباكر، فلما اراد تسليمنا مستحقاتنا جذبني عنده جذبة خفيفة ودس ثلاث ورقات من فئة مائة درهم في جيبي وقال لي بصوت خافت: هذي هدية مني لك زيادة على الفلوس ديالك، نتا راجل وهاكذا نبغيك، سير الله ينجحك ويبلغك المقصود.
ظل صدى كلماته يرن في أذني وأحسست بفخر لم أشعر به قبل ذلك. فقبلت يده وشكرته وقفلنا راجعين إلى ديارنا. وهنا ستبدأ تجربة حصاد ثانية في قبيلة الحياينة أتركها لحلقات مقبلة بحول الله.
وعلى المودة نلتقي.
مع خالص الود ويانع الورد.

توقيع: أحمد لزعر التسولي

الأراء المعبر عنها في التعليقات تمثل وجهة نظر صاحبها .ولا علاقة لها بالتوجهات العامة للموقع

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Twitter Facebook Digg