تعديل

mardi 10 juillet 2018

شذرات من حياتي 05




تحياتي أحبابي:
غادرنا عين سخون متوجهين إلى بيوتنا وقد كتمت أمر الزيادة التي وهبني إياها الفلاح الكريم خوفا من أن أثير بعض الحسد، وصلنا مركز اولاد ازباير وقصدت أحد الجزارين المعروفين في المركز (عبد الرحيم خريش أطال الله عمره) واقتنيت من عنده كيلوغراما من اللحم وبعض المشمش والبرقوق وتوجهت للبيت، وصلنا متأخرين قليلا، أعطيت ما جلبته لوالدتي وناولتها المبلغ الهدية، في حين احتفظت بالباقي لأداء واجب الكراء وشراء بعض الملابس والكتب، سمعت من أمي وجدتي ما أثلج صدري من الدعاء، ثم خرجت متوجها للمسجد فوجدت عامر ابن عم والدي أطال الله بقاءه جالسا مع الإمام، سلمت عليهما وجلسنا ننتظر آذان صلاة العشاء على صوت إبريق شاي يغلي، بعد برهة سألني ابن عمي وكان يلقبني بالأستاذ منذ كنت تلميذا في الثانوي: غدا ماشيين لحياينة نشولو عند واحد صاحبي عندو شي ربعيام دالخدمة، دمشي معنا ألأستاذ؟ بدت علي بعض الدهشة لأني كنت عازما على أخذ قسط من الراحة قبل بدأ موسم حصاد القطاني الذي يسبق موسم حصاد الحبوب عادة، ولكن حب التجربة دفعني للموافقة فقلت له: شكون ماشي معنا؟ 
عامر: كاين أنا وموحمادين خاي ويوسف وأحمد دالحوسين.
وافقت على الفور وطلبت منه أن يمهلني حتى آخذ الإذن من جدي وعمي اللذان كانا مواظبين على أداء الصلاة جماعة في المسجد، مضى بعض الوقت وإذ بهما مقبلين علينا، وقفت وقبلت يديهما ثم جلست وطلبت منهما أن يسمحا لي بالذهاب للحياينة، أبديا موافقتهما ثم توجه جدي لابن أخيه قائلا مع ابتسامة لم يستطع فمه الأدرد إخفاءها: شوف أعامر الله يرضي عليك، نتينا أدعرف المعزة داحمد عندي، الله يرضي عليك لما لقيو باباه فالوسط وما كاين غي عيد وعيد باش يعرف حق الشوالة فالحياينة كي لاقي. ضحك عامر ابن عمي من كلامه ورد عليه بالإيجاب.
صلينا العشاء جماعة ثم انصرف كل واحد منا لبيته، وضعت حقيبتي بجنبي واستغرقت في نوم عميق كنت في حاجة إليه، فما أيقظني منه سوى طرقات على باب غرفتي، هببت مسرعا وفتحت الباب فوجدت عامرا وأخيه محمادين واقفين ينتظراني، غسلت وجهي ولبست ثيابي وخرجت، بعد ساعة ونصف من المشي تقريبا وصلنا مركز اولاد ازباير فوجدنا سيارة بيجو 404 تنتظرنا، ركبنا فيها وتوجهنا صوب الحياينة بعد مدة وصلنا إلى دوار قريب من سد إدريس الأول لم أعد أذكر اسمه، استقبلنا رجل ضخم الجثة على رأسه شاش برتقالي اللون ومعه خمسة رجال أحدهم شيخ جاوز الستين من عمره والباقون شباب لم يتجاوز كبيرهم الأربعين، سلمنا عليه ورحب بنا وبعامر بشكل أخص ثم أمر ابنه بأن يصحبنا للفدان، دخل الابن المنزل لقضاء غرض ما فتوجه عامر ابن عمي و(كان كثير الدعابة) للخمسة رجال الواقفين بجانبنا مخاطبا إياهم: مناين نتوما فالخوث ألفلاحة؟ رد عليه الشيخ: من غياثة. 
عامر: وفيواخ جيثو؟
الشيخ: البارح.
ضحك عامر ضحكة ماكرة وقال له: إيوا موحالش دكملو معنا للظهور؟ والله يا عمر الكلاب دالحياينة عليكم لا لهثو.
ساد فيهم بعض الهرج وتعالت أصواتهم فقرر اثنان منهم المغادرة نهائيا متحججين بأنهما لا يريدان خلق المتاعب أو الدخول في نزاع معنا. ورغم محاولة موحمادين واحمد دالحوسين التدخل لثنيهما عن قرارهما إلا أنهما كانا مصرين على المغادرة.
سمع الرجل تعالي الأصوات فخرج ينظر ما الأمر، فلما عرف ما صنعه عامر التفت إليه قائلا: واش باقي فيك داك الطبيعة ديال الضحك؟ الله يهديك علاش كاتخوف الناس؟ قال هذا الكلام ثم همس في أذنه: والله يا عبرت عليهم، راهم مساليين أصاحبي، وأنا عيطت عليك بالعاني حيت كنت عارفكم ماشي تجريو عليهم قبل الفطور هههههه.
لم يظهر الحياني إلحاحا كبيرا لمحاولة إبقاء الرجلين فدس يديه في جيبه وناولهما مستحاقتهما ثم أمرنا بالصعود للسيارة والتوجه للحقل. بعد ربع ساعة تقريبا وجدنا أنفسنا أمام حقل من القمح الأبيض يتجاوز بعضنا في الطول (ما شاء الله)، وقفنا استعدادا للشروع في العمل ثم توجه إلي عامر بالكلام وهو يومئ للثلاثة الباقين: مرحبا بك ألأستاذ، ولايني زردة هذي، والله يا هذ النهار يا غيلا شفت الدجاجة مناين أ.... أجبته بهزة رأس وقد ظهرت علي علامات الغضب لأني لم أكن راضيا على الطريقة التي تكلم بها مع إخواننا الغياتيين ولم تعجبني إهانتهم بتلك الطريقة، ولكن بحكم صغر سني وتبعيتي للأكبر مني فلم يكن بيدي ما أصنع.
بدأنا العمل بعد أن طلب عمي موحمادين من الشيخ أن يذهب للسلطنة في حين وضع الاثنين في الوسط بيننا وما هي إلا نصف ساعة حتى بدت علامات التعب عليهما فإذا بأحدهما يضع منجله على كتفه ويغادرنا دون كلام أو وداع ثم تبعه الآخر، حقيقة لم يعجبني الوضع رغم أنه أثار في داخلي بعض الضحك على الطريقة التي غادرا بها، لحق بهما الشيخ ليقنعهما بالعدول عن رأيهما ولكنهما تركاه وانسحبا في هدوء قبل أن تبتلعهما حقول القمح المترامية، رجع إلينا وعلامات الخيبة بادية على محياه وطلب منا التوقف قليلا والاستماع إليه، فتوجه إلينا متوسلا بكلمات أحسست بها كالسكاكين تغرز في صدري: شوفو أسيادي الرجال أنا مسلم لكم عملو فيا دي بغيثو، ولايني الله يجازيكم بخير أنا مولا وليدات، وعندي جوج دالنسا فالدار، وكل وحدة فيهم والدة سبعة، دابا أنا مزاااوك فيكم لما شوفو من حالي وخليوني نلقط طرف دالخبز معكم.
أثر كلامه في تأثيرا بالغا لم أستطع معه كفكفة دموعي، توجه إليه عمي موحمادين وقبل رأسه وقال له: شوف ألحاج نتينا غي خليك معنا وخدم علاش قديث ودي بقا نخدمو أنا، والله شوكة لا ضراثك معنا.
أعجب الشيخ بكلام عمي محمادين وشكره ثم عدنا للعمل وقد أعجبت بما فعله ابن عمي وكبر في عيني منذ تلك اللحظة. فرح الشيخ بهاته المعاملة وليرد لنا الجميل قام بتقمص دور الفكاهي المضحك في الأربعة أيام التي قضيناها هناك، فكان لا يخرج من نكتة حتى يدخل في نادرة، ولا ينتهي من قصة حتى يبدأ في أخرى، وقد استغل زواجه من اثنتين ليحكي لنا عن أسراره الزوجية التي أخجل من أن أذكر هنا أقلها تأثيرا، وليكشف لنا أيضا عن أمور مخجلة تجري في أسرته، لم أكن راضيا عن سماعها خصوصا وهو يحكي عن ابنتيه وكيف تدبران أمورهما في المدينة بطريقة غير مشروعة.
في حقيقة الأمر فقد كان حدسي ينبئني بأنه كان يختلق كل تلك الأشياء اختلاقا ويلفقها تلفيقا من أجل أن يضحكنا ويضمن استمراره معنا، لأنني أعتقد أنه مهما بلغت جرأة المرء ووقاحته فإنه لن يبلغ ذلك المبلغ، خصوصا وأنه كان رجلا فاضلا لا يفوت فرضا، ولا يفتر لسانه عن الذكر ليلا.
أمضينا أربعة أيام على تلك الحال من العمل الممزوج بالمرح والضحك من قفشات الرجل، وقد كنا نسأل الله أن تمر بخير وسلامة وألا يستجيب الله فينا دعوات إخواننا غياتة الذين حرمناهم من لقمة خبز جاءوا من أجلها. ولكنها كانت الأيام الأكثر تعبا التي مررت بها في حياتي كلها، لدرجة أنني لم أكن أستطيع قراءة سطر واحد عند العودة للبيت مساء من شدة التعب والإرهاق، ولا يعرف صعوبة الحصاد في الحياينة إلا من جربه، حيث تجتمع الحرارة المفرطة التي تشوي الوجوه مع شدة وصلابة سيقان القمح الصلب الذي يتجاوز طوله المتر والنصف، أضف إلى ذلك ضعف التغذية، حيث كنا نقضي نهارنا بالخبز والزيت والزيتون فقط، لعدم وجود من ينقل إلينا وجبة الغذاء من البيت نظرا لانشغال صاحب الحقل وابنه بأمور التجارة في الأسواق، إلا أنه والحق يقال كان يعوضنا عن هذا النقص في الليل، حيث كان يحرص على أن تكون وجبة العشاء دسمة لدرجة كنا نصاب معها بالتخمة.
هذا ما استطعت تذكره عن هاته التجربة التي أرجو أن تكون فيها بعض الفائدة خاصة لفئة الشباب الذين أذكرهم بقول أحمد شوقي:
وما نيل المطالب بالتمني *** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا.
وإلى اللقاء في حلقة مقبلة بحول الله.
وعلى المودة نلتقي.
مع خالص الود ويانع الورد.


توقيع: أحمد لزعر التسولي

الأراء المعبر عنها في التعليقات تمثل وجهة نظر صاحبها .ولا علاقة لها بالتوجهات العامة للموقع

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Twitter Facebook Digg